إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وبعد الدنيا دار ابتلاء إن شر ما منيت به النفوس يأس يميت القلوب، وقنوط تظلم به الدنيا، وتتحطم معه الآمال، إن في هذه الدنيا مصائب ورزايا ومحناً وبلايا. آلام تضيق بها النفوس، ومزعجات تورث الخوف والجزع، كم نرى من شاكٍ، وكم تسمع من لوام، يشكو غلاً وسقماً أو حاجة وفقراً، متبرم من زوجه وولده، لوام لأهله وعشيرته، نرى من كسدت تجارته، وبارت صناعته، وآخر قد ضاع جهده ولم يدرك مرامه. وإن من العجائب
- أن نرى أشباه رجال قد أتخمت بطونهم شبعاً ورياً، ونرى أولي عزم ينامون على الطوى. إن فيها من يتعاظم ويتعالى حتى يتطاول على مقام الربوبية والألوهية، وفيها من يستشهد دونه، وفيها من يستشهد دفاعاً عن الحق وأهل الحق، تلك هي الدنيا تضحك وتبكي، وتجمع وتشتت، شدة ورخاء، وسراء وضراء، دار غرور لمن اغتر بها، وهي عبرة لمن اعتبر بها، إنها دار صدق لمن صدقها، وميدان عمل لمن عمل فيها: { لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } [الحديد:23] . تتنوع فيها الابتلاءات وألوان الفتن، يبتلى أهلها بالمتضادات والمتباينات: { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [الأنبياء:35] ولكن إذا استحكمت الأزمات وترادفت الطوائف؛ فلا مخرج إلا بالإيمان بالله والتوكل عليه وحسن الصبر، ذلك هو النور العاصم من التخبط، وهو الدرع الواقي من اليأس والقنوط. إن من آمن بالله، وعرف حقيقة دنياه؛ وطن نفسه على احتمال المكاره، وواجه الأعباء مهما ثقلت، وحسن ظنه بربه، وأمل فيه جميل العواقب، وكريم العوائد، كل ذلك بقلب لا تشوبه ريبة، ونفس لا تزعزعها كربة، مستيقناً أن بوادر الصفو لا بد آتية: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [آل عمران:186] . إن أثقال الحياة وشواغلها لا يطيق حملها الضعاف المهازيل، ولا يذهب بأعبائها إلا العمالقة الصبارون أولو العزم من الناس، أصحاب الهمم العالية: { أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على حسب دينه } حديث أخرجه الترمذي وغيره، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح، وأخرج أحمد و أبو يعلى في مسنديهما، و الطبراني في الكبير و الأوسط من معاجمه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: { إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعمل ابتلاه الله في جسده أو ماله أو ولده ثم صبر على ذلك حتى يبلغ المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل } . كم من محنة في طيها منح ورحمات، هاهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام يضرب المثل في الرضا عن مولاه، والصبر على ما يلقاه صبراً جميلاً بعده صبر أجمل مع الأخذ بالأسباب والقوة بالأمل، يقول لأبنائه في حاله الأول: { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [يوسف:18] ثم يقول في الحال الثاني، وهو أعظم أملاً، وبربه أكثر تعلقاً: { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [يوسف:83] . كل ذلك من هذا الشيخ الكبير صاحب القلب الوديع، ثم يقول: { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [يوسف:86] يقين أرسى من الجبال، وعلم بالله لا يرقى إليه شك، وإن من علمه ويقينه وقوة رجائه أن أمر أبناءه: { يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [يوسف:87] . الفرق بين الصابر والجازع إن المؤمن الواثق لا يفقد صفاء العقيدة ونور الإيمان إن هو فقد من صافيات الدنيا ما فقد، أما الإنسان الجزوع فإن له من سوء الطبع ما ينفره من الصبر، ويضيق عليه مسالك الفرج إذا نزلت به نازلة، أو حلت به كارثة أو ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وتعجل في الخروج متعلقاً بما لا يضره ولا ينفعه. إن ضعف اليقين عند هؤلاء وأمثالهم يصدهم عن الحق، ويضلهم عن الجادة؛ فيخضعون ويذلون لغير رب الأرباب ومسبب الأسباب، يتملقون العبيد، ويتقلبون في أنواع هذه الملذات، ويكيلون من المديح والثناء ما يعلمون من أنفسهم أنهم فيه كذبةً أفاكون، بل قد يرقى بهم تملقهم المقيت أن يطعنوا في الآخرين، ويقعوا في الأبرياء من المسلمين. إن أي مخلوق مهما بلغ من عز أو منزلة فلن يستطيع قطع رزق، أو رد مقدور، أو انتقاصاً من أجل: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [الروم:40] . في حديث عن أبي سعيد مرفوعاً: { إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله } . إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا ترده كراهية كاره، وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط، إن من فقد الثقة بربه اضطربت نفسه، وساء ظنه، وكثرة همومه، وضاقت عليه المسالك، وعجز عن تحمل الشدائد، فلا ينظر إلا إلى مستقبل أسود، ولا يترقب إلا الأمل المظلم. هذه هي حال الدنيا، وذلك هو مسلك الفريقين فعلامَ الطمع والهلع؟ ولماذا الضجر والجزع؟ لا تتعلقن فيما لا يمكن الوصول إليه، ولا تحتقرن من أظهر الله فضلك عليه، واستيقين أن الله هو العالم بشئون خلقه، يعز من يشاء ويذل من يشاء، يخفض ويرفع، ويعطي ويمنع، هو أغنى وأقنى، وهو أضحك وأبكى، وهو أمات وأحيا. إن المؤمن لا تبطره نعمة، ولا تفزعه شدة. إن أمر المؤمن كله خير إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن. في هذا صح الخبر عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، فاتقوا الله يرحمكم الله، واصبروا واثبتوا وأملوا، واكلفوا من العمل ما تطيقون، ولا تطغينكم الصحة والثراء، والعز والرخاء، ولا تضعفنكم الأحداث والشدائد، ففرج الله آت ورحمة الله قريب من المحسنين. قال تعالى { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } [فاطر:2-3] .
اعلموا أن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط، وإذا أراد الله بعبده خيراً عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة، لهذا جاء في الأخبار عن المصطفى المختار صلى الله وسلم عليه وعلى آله. الابتلاءات في هذه الدنيا مكفرات للذنوب، حاطة للخطايا، تقتضي معرفتها الإنابة إلى الله، والإعراض عن خلقه، وهي هدىً ورحمة وصلوات من المولى الكريم: { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [البقرة:157] . فاتقوا الله ربكم، وأحسنوا الظن به، وأملوا فيما عنده، واعملوا صالحاً. ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير نبيكم محمد بن عبد الله فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [الأحزاب:56].
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنك على كل شيء قدير.