الطريق الى الله هل أحسست مرة وأنت تقدم مساعدة لشخص لا تعرفه، فتقيله من عثرة، أو ترفع له حملا لا يقوى على رفعه، أو تناوله شيئاً لا تناله يده، أو تدله على حل لإحدى مشكلاته، أو تقوم له بعمل هو في حاجة إليه.. هل أحسست بالخفة تملأ نفسك، فتكاد تحمل جسمك حملاً في الهواء؟ هل أحسست روح ترفرف عالية مستبشرة، ونشوة خفية تملأ جناحيك؟
إنها الطريق إلى الله..
هل استأت مرة من صديق، لأنه يقوم بعمل يؤذيك أو يتسبب في مضايقتك؟ هل هممت أن تقاطعه فلا تكلمه بعد ذلك أبداً؟ هل جمعت أمرك أن تلقيها في وجهه كلمة قاطعة: لست صاحبي ولا أعرفك منذ اليوم؟
ثم رددت نفسك في اللحظة الأخيرة وقلت: إنه بشر، وكل البشر يخطئون. وأنا أيضاً أخطىء أحياناً بغير قصد، ثم يتبين لي ما أخطأت؟.. وهل أقبلت على صديقك تكلمه كأنه لم يسيء إليك، بل تكلمه مقبلاً عليه وقد أعطيته نفسك وقلبك.. حقاً لا رياء.. حقاً ينبع من أعماق نفسك؟
إنها الطريق إلى الله..
هل أحسست نحو إنسان أنك تحبه؟ تحبه ولست في حاجة إليه ولا تنتظر نفعاً على يديه؟ تحبه بلا ضغينة له في نفسك ولا غيرة ولا حقد؟ تحبه فلا تقيس نفسك – سراً – إليه وتقول: ألم أكن أنا أولى منه بما هو فيه؟ تحبه فلا تحسده على مزاياه ومواهبه بل تحبها كأنها هي ملكك، وتتمنى له المزيد؟ تحبه فتنجذب إليه كما ينجذب المغنظيس، وتسري روحك على موجات الجاذبية خفيفة مرفرفة نشوانة كالفراشة التي ترفرف للنور؟
إنها الطريق إلى الله..
هل فتنتك هذه الفتاة الممشوقة الساحرة النظرات؟ هل أحسست رعشة في كيانك وهزة في فؤادك؟ هل اضطربت نفسك كلها كما تتحرك الرواسب الخامدة في الماء الرائق فإذا كله قد اضطرب وماج؛ تيارات صاعدة هابطة، وذرات تذهب وتجىء. والماء الرائق صار مختلط اللون قد امتلأ "بالعكار"؟
ثم هل تذكرت أنها ليست لك؟ وأنه ليس لك أن تتبعها بخطواتك أو بنظراتك أو بمشاعرك؟ هل أحسست – رغم الرغبة الجامحة التي تكاد تنتزعك من إطارك وتفلت بك من نفسك – أنك متنازل عنها.. عن الشهوة والفتاة، وأنك تسترد أنفاسك اللاهثة وخفقاتك المضطربة.. وتهدأ وتطمئن؟
إنها الطريق إلى الله..
هل صفت نفسك في نور القمر؟ هل سرحت طرفك في هذا الكون الحالم الغارق في الضياء؟ هل نسيت نفسك. وأحسست بالحواجز بينك وبين الكون تتذاوب وتختفي رويداً رويداً حتى إذا أنت جزء من العالم الواسع الفسيح، وهو خاطرة تملأ فؤادك؟ هل نسيت أحقادك وضغائنك وما بينك وبين الناس من صراع وتضارب، وأحسست أنك والناس جميعاً ذرات خفيفة هائمة في الملكوت، لا ينبغي أن تتصادم – فالكون فسيح – بل ينبغي أن يخلي بعضها الطريق لبعض، وأن تتجاذب لتسبح معاً منسابة في النور؟ هل أحسست أنك طليق كهذا الشعاع السارب في الفضاء ينقل بسمة القمر الحالم إلى وجه الأرض؟ طليق من السلاسل التي تقيدك بالأرض، طليق من شهواتك الجامحة ورغباتك المجنونة، ونوازع الشر الحبيسة؟
إنها الطريق إلى الله..
هل أحسست بتلك القروش التي في جيبك كأنها ليست لك؟ هل انقطعت السلسلة المتينة التي تشدك إليها وتشدها إليك؟ هل بطل الجذب العنيف الذي يربط كلا منكما بالآخر؟ هل أحسست بدلاً من ذلك أن يدك تعبث بها لتخرجها من مكمنها، نشوانة بما تفعل، طليقة من الشح، نشيطة إلى العطاء؟ هل دسستها بعد ذلك في يد فلان من الناس وانطلقت نشيط الخطوات خفيف الروح، كأنك تخلصت من ثقلة كانت تشدك إلى الأرض؟
إنها الطريق إلى الله..
هل أحسست بالألم يعتصر فؤادك؟ ألم من كل نوع.. آلام شتى. كلها مؤلم وكلها شديد.. هل أحسست أنك تتهاوى تحت وطأتها وأنك لا تستطيع احتمالها؟ هل أحسست وخزها يدفعك إلى الصياح.. إلى التأوه.. إلى الانفطار.. إلى انهيار الأعصاب وانهيار السلطان على النفس؟
ثم هل تمالكت نفسك رغم هذا، وقلت تؤسى نفسك وتجمع شتاتها تصبرها.. فليكن ذلك في سبيل الله؟
إنها الطريق إلى الله؟
هل أحسست برغبة تدفعك إلى العبادة؟ رغبة ملحة تقيمك وتقعدك، ولا تجد راحتها إلا ابتهالاً إلى الله، واستسلاماً لله؟ وهل خشعت نفسك وأنت تلبي هذا الهاتف الذى يدفعك إلى الله، واهتز وجدانك وشعرت بالقشعريرة تسري في كيانك؟ هل أحسست أنك لست في عالم الأرض. لست في تلك البقعة التي يحددها الزمان والمكان المعلوم. وأنك لست أنت هذه الوشائج والعضلات والعظام. وإنما أنت أمام الله ومع الله. وأنت كيان لا حدود له ولا رسم، لأنك روح تقبس من روح الله؟
إنها الطريق إلى الله..
هل أحنقك الشر يمرح في الأرض؟ هل أحسست بهزة الغضب وأنت ترى الظلم يقع عليك وعلى غيرك من بني البشر؟ هل رأيت أنه لا يجوز لك أن تسكت وأنه ينبغي أن تتحرك وتثور؟ وأنك أنت.. أنت قبل غيرك، ينبغى أن تقول لهذا الشر مكانك، فقد جاوزت حدك. وهل علمت أنك لا شك متعرض للأذى حين لا تسكت على الظلم، وحين تأخذ على عاتقك أن تقاومه وتعترض سبيله؟ وهل علمت أنّ الأذى قد يشتد عليك حتى ليسلبك الراحة والأمن ورغد العيش.. وقد يسلبك الحياة.. ثم ظلت نفسك على غضبها، وعلى عزيمتها في الوقوف للظلم وصد العدوان؟
إنها الطريق إلى الله..
هل ضاقت نفسك بالحياة فما عدت تطيق آلامها وقسوتها؟ هل تملك الضجر واليأس، وأحسست بالحاجة إلى الشكوى؟ هل تلفت حولك فلم تجد من تشكو إليه؟ لم تجد الصفى الذى يخلص لك حتى لتفتح له نفسك دون تحرج وتطلعه على كل خفاياك؟ أو لم تجد راحة في شكواك إلى الناس؟
ثم هل تطلعت إلى السماء وانفجرت بالشكوى؟ هل وجدت الله وشكوت له بثك ونجواك؟ هل أحسست أنّ هذا الحمم الذي تطوى ضلوعك عليه قد تدفق وتدفق، وسال كلمات على لسانك وعبرات في عينيك، وأنك أرسلتها كلها إلى القوة الكبرى القاهرة التي تملك كل شيء وتقدر على كل شيء؟ وأحسست بالراحة والبرد والسلام إذ انطلقت تلك الشحنة الحبيسة ووصلت إلى غايتها؟ وهدأت نفسك أنك أودعتها حيث ينبغى أن تودع وحيث لا تضيع؟
إنها الطريق إلى الله..
هل ألممت بذنب؟ هل جمحت نفسك فانطلقت من عقالها، وأنت تغالبها فتغلبك، أو تسكت عنها منذ البدء فتنطلق إلى حيث يغويها الشيطان؟ هل وقعت الواقعة وانتهى الأمر ولم يعد إلى مرد من سبيل؟
وهل أفقت من غفوتك على لذعات ضميرك؟ هل نكست رأسك خجلاً من نفسك أن ضعفت وتلاشيت أمام الإغراء؟ هل أحسست أنك لا شيء؟ أنك تافه لا تستحق التقدير والاحترام؟
هل انقلبت خطيئتك سجناً يحيط بك من كل جانب، لا مهرب منه إلا إليه. وحيثما توجهت سد عليك الأفق وحجبه بالظلمات؟
وهل ضاقت نفسك بالحياة؟...
ثم...
هل انفتحت كوة من عالم الغيب ودخل منها بصيص من النور؟
هل استروحت نسمات تدخل إليك من عالم سحيق؟
هل أحسست بسمة حانية تطل عليك من ملكوت الله؟
هل أحسست يداً رقيقة تأخذ بك من كبوتك؟
هل أحسست صوتاً يهتف بك: "والله يحب المحسنين، والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم – ومن يغفر الذنوب إلا الله – ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين".
وصوتاً آخر يهتف بك: "كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون".
وهل غمرتك غمرة من نور؟
وهل اندفعت قائماً تذكر الله وتستغفر الله، وتتوب إليه، وتمسح الخطيئة من ضميرك، وتعزم عزمة الواثق أن لن ترجع إليها..
وهل أحسست أنك مندفع إلى الله أكثر حماسة مما كنت من قبل، وأشد تعلقاً به مما كنت من قبل، وأكثر إقبالاً على نوره مما كنت من قبل..
إنها الطريق إلى الله..
هل أحسست – وقد فرغت من عملك ومن جهاد يومك – أنك لا تملك من أمر نفسك شيئاً؟ وأنك مهما عَنَّيتها بشئون الحياة فليس من وراء ذلك إلا تعب الخاطر ومشغلة الفكر؟ وأنّ عليك أن تسعى ولكنك لا تملك نتيجة السعي ولا تعلم أيان مرساه؟
هل شعرت أنّ القوة الكبرى هي التي تدبر كل شيء وتمنح كل شيء؟
هل شعرت أنك أديت واجبك كما ينبغي، وفي حدود طاقتك، وأنه ليس في وسعك بعد ذلك إلا أن تنتظر أمر الله؟
وهل حداك هذا إلى أن تكل أمرك إلى الله وتضع في رعايته الحمل الذي يثقل ظهرك والمشغلة التي تأكل فؤادك؟ وهل أحسست أنك آمن على هذا الحمل حقاً وهو في رعاية الله؟ وأنه هناك كأنك أنت الساهر على حراسته؟ وهل ملأت قلبك الطمأنينة إليه؟ ونمت وفي خاطرك أنه يرعاك وأنت نائم، ويدبر لك أمرك وأنت غافٍ عن الإدراك؟